
قبل أيام توقفت سيارة دفع رباعي بيضاء اللون في منطقة برية خالية من البناء باستثناء ثلاث رواكيب. ترجّل من السيارة ٤ أشخاص، تم تعريفهم من مذيع الزيارة بأنهم مسئولي التعليم بمنطقة أروما أتَوا في زيارة تفقدية لهذه المدرسة وليتهم لم يأتوا. لم أرَ مدرسة وإنما ثلاث رواكيب كئيبة لا تحمى من حر أو برد أو مطر، وهي عُرضة للسقوط على رؤوس التلاميذ الأبرياء في أي لحظة!.
هل يعقل ان يطلق على هذا المكان مدرسة ويزورها مسئولو التعليم ، مع توثيق زيارتهم بالصوت والصورة!
رواكيب متهالكة تفتقر إلى كافة الوسائل والأدوات التعليمية، يُحشر فيها هؤلاء الصبية حشراً لتلقي العلم!
لا يوجد مقصف، لا توجد ملاعب ولا توجد دورات مياه للتلاميذ..الخ.
هل هذه بيئة تعليمية؟ هل تعليمنا يتطور أم يتدهور؟ شخصياً درست المرحلة الابتدائية في قرية من قرى منطقة الجزيرة في مدرسة تتكون من ٦ فصول مبنية بالطوب الأحمر ومرصوفة بالبلاط وجدرانها مزدانة بالبوسترات ووسائل الإيضاح،، كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، والآن وبعد ما يزيد عن خمسين سنة نكتشف أن بعض تلاميذنا يتلقون العلم في راكوبة! .
لذلك لم نفاجأ بخبر خروج الجامعات السودانية من التصنيف العالمي بمؤشر جودة التعليم الصادر عن منتدى دافوس مؤخراً. لم يكن هذا الخروج مفاجئاً بل كان متوقعاً في ظل التراجع الذي تشهده البلاد في كافة الأصعدة.
في تصنيف دافوس المذكور انضمت كافة جامعاتنا الحكومية والأهلية إلى قائمة الجامعات المستبعدة من التصنيف والتي تضم جامعات الصومال وسوريا والعراق ! .
فالمعايير ليست بالكم وإنما بالكيف، وبالعقول والألباب لا بالألقاب، وبالمعاني لا بالمباني ( ونحن يا كافي البلا، لا مباني ولا معاني) .
لا أدري كيف أصبحت مؤشرات الأداء في معظم القطاعات، في سودان القرن الحادي والعشرون، في حالة إنحدار سريع نحو الأسفل بدل الصعود نحو الأعلى؟
فقبل مائة سنة كان تعليمنا العالي أفضل من حيث المخرجات والابداع والأثر المجمتعي، ولايمكن مقارنة ذلك بأي حال من الأحوال بهذه الرواكيب البائسة لمدرسة أروما الابتدائية.
التدهور الحالي في مخرجات التعليم يحتاج إلى معالجة جذرية في الاتجاهين الافقي والرأسي. ولا شك في أن هناك ركام من التوصيات والخطط المتعلقة بالإصلاح طُرحت، في أوقات سابقة، من المختصين في مجالات التعليم والتربية والمناهج في بلادنا، ولكنها لم ترَ النور.
وبيان لجنة المعلمين السودانية (١/١٢/٢٠٢٥) يذهب في هذا الاتجاه ويطالب بضرورة انقاذ منظومة التعليم في البلاد ووضع خطة لإعادة تأهيل المدارس المدمرة، ودمج الأطفال خارج النظام التعليمي، ورفع مخصصات التعليم، وتحسين أجور المعلمين، وتطوير المناهج بما يواكب متطلبات العصر.
الوضع المزري لمنظومتنا التعليمية في الوقت الراهن لا يليق ببلد عرف وخبر التعليم الحديث منذ القرن التاسع عشر، وافتُتحت فيه أول كلية طب، وهي مدرسة كتشنر الطبية، منذ مائة عام، وتخرّج فيها أول دفعة من الأطباء الوطنيين في العام ١٩٢٧م، كما يقول الكاتب والأديب حسن نجيلة في كتابه الجميل: ملامح من المجتمع السوداني، حيث يصف فرحة الأهالي والأعيان بمناسبة تخرُّج أول دفعة من الأطباء السودانيين من مدرسة كتشنر الطبية في العام ١٩٢٧، ويقول إنها كانت أمنية غالية للمواطنين أن تشهد المستشفيات أطباء سودانيين، فقد كان كل الأطباء حتى هذا التاريخ انجليز وسوريين ومصريين. (حسن نجيلة،٢٠٠٥، ص ٢٨٥).
وكان عدد خريجي الطب في ذلك العام سبعة أطباء وهم: علي بدري/أمين السيد/الفاضل البشرى/الطاهر يوسف/
احمد عكاشة/داوود إسكندر/النور شمس الدين.
ويتحدث كاتبنا الجليل حسن نجيلة بلسان المواطنين عن لحظة دخول تلك الكوكبة من الأطباء الى حفل نادي الخريجين فيقول كدنا نلتهمهم بعيوننا (حسن نجيلة، ٢٠٠٥، ص ٢٩٠).
التدهور الكبير الذي أصاب المؤسسات التعليمية في البلاد بسبب هذه الحرب اللعينة المندلعة منذ ابريل ٢٠٢٣، وبأسباب أخرى سابقة للحرب، منها، التوسع الكبير في إنشاء الجامعات الخاصة الذي تم في عهد الإنقاذ البائد دون أن يواكبه تأسيس متين للبنية التحتية ودون تهيئة كاملة للمعايير والشروط والأدوات اللازمة..الخ، هذا التدهور يستلزم ردة فعل من المعنيين.
إصلاح المنظومة التعليمية ممكن، ويجب أن يبدأ من الأسفل قبل الأعلى. علينا إصلاح المراحل الدنيا أولاً، انطلاقاً من التعليم ما قبل المدرسي ثم المدرسي ( الأساس، المتوسط، الثانوي)، حتى نضمن وصول تلاميذ مهيئين لتلقي التعليم الجامعي وما بعد الجامعي.
من المؤكد أن الإصلاح المطلوب أعم وأشمل، ولا يقتصر على ماورد بالفقرة السابقة.
جوهر موضوع الإصلاح متروك لأهل الدراية والاختصاص في مجال التربية والتعليم والمناهج والمقررات وغيرهم للإسهام في حل ازمة التعليم في السودان.




