
أعلنت قوات الدعم السريع إستيلائها على مقر الفرقة السادسة مشاة بمدينة الفاشر يوم الاحد: 26/10/2025م وبذلك سقطت الفاشر، آخر معاقل الجيش في دارفور والعاصمة التاريخية لسلاطين دارفور العظام، سقطت الفاشر بعد حصار مرير وهجوم متواصل من قوات الدعم للمدينة المنكوبة لنحو عامين.
مدينة الفاشر لها من الخصوصية والرمزية ما ليس لغيرها من مدن الإقليم. الفاشر سبقت المدن الأخرى وقامت بدور تاريخي في توحيد إقليم دارفور وتأكيد سيادته واستقراره. ثم إن موقعها الاستراتيجي في قلب دارفور ضمن لها الازدهار التجاري على مر العصـور. وبسبب هذه الأهمية كانت الفاشر دوماً هدفاً عسكرياً واقتصادياً للطامعين والطامحين من خارج المنطقة.
في التاريخ الحديث، تعرّض إقليم دارفور ومدينة الفاشر لحملة عسكرية بقيادة الزبير ود رحمة لضم الإقليم عنوة لسلطة محمد علي باشا الذي احتلت قواته كافة أقاليم السودان في العام 1820م باستثناء إقليم دارفور. تمكّن الزبير باشا وقواته المعروفة بالبازنجر (جنجويد ذلك العصر) من الانتصار على السلطان ابراهيم قرض وقتله في العام 1874م. ثم زحفوا إلى الفاشر مع قوات الاحتلال القادمة من الشرق بقيادة إسماعيل باشا أيوب، واستولوا على المدينة ونهبوا ما فيها حتى كانت النقود (الريالات) مبعثرة بالطرقات.
ثم تكرر سيناريو الغزو والنهب والقتل والتشريد لسكان الفاشر في فترة الثورة المهدية (الثورة المهدية لها إشراقات عديدة ولكن لها أيضاً جانبها المظلم). محمد خالد زقل كان من أبرز قادة المنطقة الذين انضموا للثورة المهدية، وبعـد قدومه إلى المهدي في الأُبيّض للمبايعة، عيّنه المهدي أميراً على دارفور ومنحه تفويضاً شاملاً لكل ما يتعلق بمنطقة دارفور، فزحف نحو الإقليم بحوالي 50 ألف مقاتل في بداية 1884م واستلم الفاشر، وتم قتل الضباط والموظفين ومصادرة الأموال والغنائم وإرسالها إلى المهدي.
والآن يتكرر السيناريو نفسه على مدينة الفاشر ولكن بصورة أبشع. سقطت المدينة في يدي هذه القوات المتفلتة. فشاهدنا مقاطع تقشعر لها الأبدان.. مقاطع قتل مروعة للمجموعات المستسلمة بل وللمرضى والجرحى على أسرتهم داخل المستشفيات!
في اليوم التالي للاجتياح ظهر عبد الرحيم دقلو نائب قائد الدعم السريع أمام مقر الفرقة السادسة مشاة في الفاشر ببزته العسكرية ومعتمراً عمامة سوداء ومحاطاً بحشد كثيف من أتباعه وهم يحملون البنادق الآلية ليلقي (خطاب النصر) ويطلب من مواطني الفاشر العودة إلى منازلهم ومتاجرهم، ويقدم لهم وعداً كاذباً بأن ممتلكاتهم آمنة ومؤمنة وأن قواته لن تسرق شيئاً من ممتلكات المواطنين حتى الخيط! رغم أن الواقع يقـول العكس، ويثبت بالصوت والصورة اجتياح قوات دقلو للمدينة ونهبها وتعريض سكانها للقتل والتشريد. وقد أكدت المفوضية السامية للاجئين في أحدث تقاريرها عن الفاشر بفرار الآلاف من المواطنين من الفاشر وأنهم واجهوا، أثناء هروبهم، نقاط تفتيش مسلحة وابتزاز واعتقالات واعدامات مروعة وانتهاكات جنسية ضد النساء (28/10/2025).
ما حدث في الفاشر من انتهاكات ليس مستغرباً من هذه القوات المتفلتة، فهذه الممارسات ليست إلا امتداداً لما فعلته بالأهالي في (تمبول) و (ودراوة) و (السريحة) و (ود النورة) بولاية الجزيرة قبل ما يقرب من عامين من هذا التاريخ. كما أن هذه المذابح ترسل تنبيهات إلى ذاكرتنا السمكية بما كانت تفعله القوات إياها بسكان دارفور من تنكيل وقتل وتشريد منذ إنشائها من قبل نظام الإنقاذ البائد في العام 2013م لمحاربة الحركات المسلحة الدارفوريـة.
وينبغي التأكيد في هذا المقام بأن انتهاكات الدعم السريع في الفاشر وفي غير الفاشر لا تختلف عن الانتهاكات التي سبق وأن تعرّض لها المواطنين في الخرطوم وامدرمان وبحري ومدينة ود مدني بعد استعادتها من قبل الجيش، حيث قُتل العديد من الأشخاص بحجة أنهم من المتعاونين مع الدعم السريع، وثّقت الكاميرات مشاهد القتل رمياً بالرصاص للمتهمين بالتعاون في هذه المدن التي استعادها الجيش، ويضاف إليهم أعداد لا تحصى من الجثث التي انتشلها المواطنون من مجاري الأنهار! تنفيذ عمليات القتل بواسطة أشخاص ملثّمين لا يعفي الجيش من المسئولية.
إن قتل الناس خارج إطار القانون وبتهم ظنية مرفـوض ومـدان (المتهم برئ حتى تثبت إدانته)، والشعب السوداني بكافـة أطيافه سوف لن يتسامح ولن يرضـخ للترهيب ولن يرفع رايـة الاستسلام أبداً، وسيستعيد ثورة ديسمبر المسروقة في القريب العاجل (وما ذلك على الله بعزيز).
والفاشر المعزولة الآن عن العالم الخارجي والمحرومة مـن خدمة الانترنيت، بأمر الدعم السريع، ستعود إلى سابق عهدها، مدينة كوزموبوليتانية ورمزاً للتعدد العرقي والثقافي والفني والتسامح والتعايش.
ونختم بأبيات من شعر ابن الفاشر الأديب والمثقف العضوي عالم عباس:
تُـرى ما بالنـا حلّـت عليهـم أو علينا لعنــةٌ..
صــاروا وحوشـاً واستباحـوا لحمهـــا..
شربـوا دِمـاها قبل قُرص الشمس تنـزع للأفــول..
				




